النظام العالمي القائم على القواعد- هيمنة أميركية أم تحديات دولية؟

منذ أن تسلم الرئيس جو بايدن مقاليد الحكم في الولايات المتحدة في شهر يناير/كانون الثاني من عام 2021، لم تفُتْه فرصةٌ إلا وأشار فيها إلى "النظام العالمي المستند إلى القواعد". وقد كان هذا التركيز تحديدًا في المناسبات التي تتعلق بالصين وروسيا، أو بالدول التي تصنفها الولايات المتحدة كدول راعية للإرهاب. وبايدن شخصيًا وكذلك إدارته يتهمون هذه الدول بشكل قاطع بمحاولة إضعاف دعائم هذا النظام. ويرون أن من واجب الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها أن يتعاونوا سويًا بهدف حماية هذا النظام، وأن يقفوا صفًا واحدًا في وجه القوى التي تهدد استقرار المجتمع الدولي وتسعى جاهدةً إلى زعزعة أسس هذا النظام.
بينما كانت الولايات المتحدة منشغلة بما تسميه "الحرب على الإرهاب" خلال العقدين الماضيين، كانت روسيا الاتحادية تعمل بدأب على استعادة توازنها ونفوذها، وتعزيز مكانتها السياسية في مناطق حيوية مثل أوروبا وآسيا والشرق الأوسط. وفي المقابل، حققت الصين إنجازات اقتصادية وعسكرية وتقنية مذهلة ومتسارعة، ما جعلها تشكل تهديدًا متزايدًا للولايات المتحدة وحلفائها، وكذلك للنظام الدولي الليبرالي القائم.
انتشار ملحوظ ومثير للريبة
إن الإصرار المتزايد من جانب الرئيس بايدن وإدارته وحلفائه على تكرار عبارة "النظام العالمي القائم على القواعد" في مختلف المناسبات والاتفاقيات يذكرنا بشكل لافت بالنهج الذي اتبعه الرئيس جورج بوش الابن في الترويج لمصطلح "الحرب على الإرهاب"، والتي انخرطت فيها أكثر من 170 دولة دون أن يكون لديها فهم كامل لطبيعة العدو، أو حجمه، أو مدى خطورته، أو قدراته العسكرية والاقتصادية، ناهيك عن طبيعة ساحة المعركة وتعقيداتها. والآن، تعلن إدارة بايدن أن "الحرب على الإرهاب" قد شارفت على نهايتها، وأن المواجهة الحقيقية اليوم هي ضد المنافسين الذين يسعون إلى تقويض النظام العالمي المستند إلى القواعد.
لذلك لم يكن مستغربًا أن يجعل الرئيس بايدن، خلال اجتماعه مع قادة مجلس التعاون الخليجي ومصر والعراق والأردن في قمة الأمن والتنمية التي انعقدت في مدينة جدة، مسألة بناء الشراكات مع الدول الأخرى في صدارة بنود الاجتماع. وأكد أن الولايات المتحدة سوف تدعم هذه الشراكات وتعززها، ولكن فقط مع الدول التي تلتزم بالنظام الدولي القائم على القواعد. وقبل هذه القمة، حث الرئيس بايدن الأمم المتحدة على الدعوة، عبر أمينها العام، إلى ضرورة الدفاع عن النظام الدولي القائم على القواعد الذي ترسخه الأمم المتحدة، باعتباره عنصرًا حاسمًا في مواجهة التحديات الراهنة.
أما حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فقد أكد في خطته الاستراتيجية لعام 2030 - التي أقرها قادة الحلف في شهر يونيو/حزيران من العام الماضي - على ضرورة "التكيف مع المنافسة العالمية المتزايدة، ومع التهديدات غير المتوقعة، بما في ذلك الإرهاب والهجمات الإلكترونية والتقنيات التخريبية وتغير المناخ وتحديات روسيا والصين للنظام الدولي القائم على القواعد". وخصصت الخطة الهدف الخامس من بين الأهداف المقترحة للتركيز على "التمسك بالنظام الدولي القائم على القواعد"، باعتباره النظام الذي يدعم أمن الحلفاء وحريتهم وازدهارهم، والذي يتعرض لضغوط متزايدة من الدول التي وصفها بـ "الاستبدادية" مثل روسيا والصين، واللتين لا تتشاركان مع الحلف وشركائه القيم التي يرتكز عليها. ولذلك، سوف يستثمر الناتو حتى عام 2030 في زيادة وتعميق شراكاته بما يتماشى مع قيمه ومصالحه لحماية "النظام الدولي القائم على القواعد".
وعلى نفس المنوال، حذرت وثيقة السياسات الدفاعية الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية والنووية - التي أعدها الحلف في يونيو/حزيران الماضي - من أن طموحات الصين المعلنة وسلوكها الحازم يهددان بشكل منهجي "النظام الدولي القائم على القواعد" والمجالات المرتبطة بأمن الحلف، حيث تعمل الصين على توسيع ترسانتها النووية وزيادة عدد الرؤوس الحربية وأنظمة الإيصال المتطورة.
إن إعلان الرئيس الصيني شي جين بينغ في عام 2014 بأن الشؤون الآسيوية ومشاكلها يجب أن يديرها الآسيويون ويحلوها بأنفسهم بدلاً من القوى الخارجية، يذكرنا بتصريح الرئيس الأميركي جيمس مونرو (1817-1825) الذي أدلى به قبل قرنين من الزمان، حين أعلن أن الولايات المتحدة ستعارض أي محاولات أوروبية لإعادة استعمار القارتين الأمريكيتين بدءًا من عام 1823، في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا تعتبر أكبر إمبراطورية في العالم.
أما وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، فهو يسير على خطى رئيسه، ولا يترك مناسبة - سواء كانت لقاءات ثنائية أو متعددة الأطراف، إقليمية أو دولية، أو محاضرات في الجامعات أو مؤتمرات صحفية - إلا ويتحدث فيها عن التحديات التي تواجهها الدول الديمقراطية من الأنظمة الاستبدادية، التي تسعى جاهدة إلى تقويض "النظام القائم على القواعد"، هذا النظام الذي يعتبر ضروريًا وأساسيًا لأمن وازدهار الدول الديمقراطية، دون أن يقدم تعريفًا واضحًا ومحددًا لهذا النظام. فهو يتحدث عن أهميته للدول الديمقراطية، وعن ضرورة العمل مع الحلفاء والشركاء للدفاع عنه، مشيرًا إلى أن الهدف من الدفاع عن "النظام القائم على القواعد" هو حماية حق جميع البلدان في اختيار طريقها الخاص، بعيدًا عن الإكراه والتخويف.
ويؤكد بلينكن أيضًا على أن الاستقرار في أوروبا على المحك، وأن "النظام الدولي القائم على القواعد" يتعرض لاختبار حقيقي من قبل روسيا والصين، وأن الولايات المتحدة سوف تعمل على محاسبة روسيا على حربها في أوكرانيا، هذه الحرب التي تمثل استهزاءً بميثاق الأمم المتحدة و"النظام الدولي القائم على القواعد" الذي جلب الاستقرار والتنمية العالميين على مدى 75 عامًا الماضية.
ما هو النظام الدولي القائم على القواعد تحديدًا؟
في الواقع، لا يوجد في مواثيق الهيئات والمنظمات الدولية التي تشكلت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ولا في معاهداتها واتفاقياتها، ما يعرف بـ "النظام الدولي القائم على القواعد". ومع ذلك، فإن عبارة وزير الخارجية الأميركي التي قال فيها إن "النظام الدولي القائم على القواعد هو الذي جلب الاستقرار والتنمية العالميين على مدى 75 عامًا الماضية"، تمثل محاولة لربط مسمى "النظام الدولي القائم على القواعد" بالنظام الذي تأسس بقيادة الولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والذي كان يُعرف حينها بالنظام الدولي الليبرالي، والذي تقوم قواعده على أساس الليبرالية السياسية والاقتصادية والأممية الليبرالية. وتنظم علاقاته الدولية مجموعة من المؤسسات الدولية المتعددة الأطراف، وعلى رأسها الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، ومجموعة من المواثيق والعهود، مثل ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي والعهد الدولي لحقوق الإنسان، وتحكمه مجموعة من المبادئ الأساسية، كالديمقراطية والمساواة والحرية وسيادة القانون وحقوق الإنسان والتعاون الأمني والتعاون النقدي.
وفي أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة بينه وبين الولايات المتحدة، استخدم الرئيس جورج بوش الأب عبارة "النظام العالمي الجديد"، معلنًا بداية حقبة جديدة تتربع فيها الولايات المتحدة وحدها على قمة عالم أحادي القطب، وعبر عن ذلك بقوله: "لا بديل عن القيادة الأميركية للعالم". وكانت حرب الخليج في عام 1991 بمثابة الاختبار الأول لهذا النظام العالمي الجديد.
وبينما كانت الولايات المتحدة منخرطة في ما تسميه "الحرب على الإرهاب" خلال العقدين الماضيين، كانت روسيا الاتحادية بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين تعمل بدأب على استعادة توازنها وإعادة تموضعها السياسي في مناطق مثل أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، وإعادة بناء قوتها العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية. وفي الوقت نفسه، كانت الصين تحقق إنجازات اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية هائلة وسريعة، مما جعلها التهديد الأكبر المباشر للولايات المتحدة، وللنظام الدولي الليبرالي القائم.
وخلال العقدين الماضيين، كانت الولايات المتحدة تراقب عن كثب الصعود المتسارع للصين في كافة المجالات، حتى وصل الأمر إلى حد لم يعد بإمكانها السكوت عنه، بعد أن تأكدت تمامًا من أن قيادتها للعالم تواجه تهديدًا حقيقيًا، خاصة بعد أن بدأت الصين في إطلاق مبادرات عالمية مستقلة ومنافسة لمؤسسات وأنشطة النظام العالمي القائم، مثل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية ومبادرة الحزام والطريق، وأعلنت بكل إصرار وقوة أنه لا بد من مراجعة النظام الدولي الليبرالي القائم، وتأسيس نظام عالمي جديد يتحرر من هيمنة الولايات المتحدة والديمقراطية الغربية، ويكون قادرًا على تحقيق مكاسب حقيقية في هذه البلدان الآسيوية.
وانطلاقًا من هذا المنطلق، جاء إعلان الرئيس الصيني شي جين بينغ في عام 2014 بأن الشؤون الآسيوية ومشاكلها يجب أن يديرها الآسيويون ويحلوها بأنفسهم بدلاً من القوى الخارجية، وهو إعلان يتردد صداه مع تصريح الرئيس الأميركي جيمس مونرو (1817-1825) الذي أدلى به قبل قرنين من الزمان، حين أعلن أن الولايات المتحدة ستعارض أي محاولات أوروبية لإعادة استعمار القارتين الأمريكيتين بدءًا من عام 1823، في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا تعتبر أكبر إمبراطورية في العالم.
وخلال العقدين الماضيين، ظهر مصطلح "النظام الدولي القائم على القواعد" في استخدامات متفرقة على ألسنة السياسيين، دون أن يكون له أي تأثير يذكر في القانون الدولي، أو أي دلالة محددة وواضحة، ولا يزال هذا المصطلح غامضًا ويحتاج إلى الكثير من التوضيح والإجراءات الملموسة. ولعل كلمات الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما - في مقاله الذي نشر في صحيفة واشنطن بوست في مايو/أيار 2016 - توضح بعض الشيء المقصود من هذا المصطلح، حيث قال: "يجب على أميركا أن تكتب القواعد، يجب على أميركا أن تحتل الصدارة، وعلى الدول الأخرى أن تلتزم بالقواعد التي وضعتها أميركا وشركاؤنا، وليس العكس". وأضاف "لقد تغير العالم، والقواعد تتغير معه، ويجب على الولايات المتحدة أن تكتبها، وليس دولًا مثل الصين".
فهل يعود إكثار إدارة الرئيس بايدن وحلفائها من استخدام هذا المصطلح إلى رغبة الرئيس بايدن في متابعة تنفيذ ما ذكره باراك أوباما؟
(يتبع)